نقولا طعمة | محرر في الميادين نت

تحتل مدينة “بورفيرون” التاريخية الأثرية موقعها على شاطىء جبل لبنان الجنوبي كواحدة من العديد من المدن الساحلية التي نشأت في حقب تاريخية مختلفة، وقامت على مطلات مرتفعة بضعة أمتار عن البحر.

و”بورفيرون” قديماً تقوم في قلب “الجية” الحالية، زهاء عشرين كيلومتراً جنوبي العاصمة بيروت، وتظهر بقاياها في متسع مغطّى بالحشائش، والجموم البرية، ويطلق عليها العامة لقب “الآثارات”.

والمفارقة المرتبطة بالموقع هي في صعوبة الوصول إليها، نظراً إلى شدة الإهمال الذي أصابها من جهة، وأهميتها الكبرى عند الإطلاع عليها، وفهم بعض مما تشكله من ثراء تاريخ عمراني من جهة ثانية.

كثر الحديث عن آثار الجية وأهميتها لقرون، وزارها بحاثة وبعثات تنقيب أجنبية، وأجروا كشوفات عليها، إلى أن بدأت مديرية الآثار التابعة للحكومة اللبنانية بإجراء تنقيبات عام نة 1975، بحسب يونس بركات – أحد المدرسين المتخصّصين من أبناء البلدة، الذي يذكر في حديث مع الميادين الثقافية أن “العمل بدأ بموقع مدينة “بورفيرون” التاريخية، فظهرت معالم المدينة، وشوارعها الضيّقة، وجدران الأبنية، واستخرج من غرفها الكثير من الآثار المكتشفة، ومنها معامل عدّة لصناعة الفخار، ومصنع لطباعة العملة القديمة. أما البناء فيقوم على 3 طبقات لثلاثة عهود تاريخية آخرها البيزنطي النصف الثاني من القرن السادس الميلادي”.

وكان قد حدث فيضان كبير قبل هذه العهود الثلاثة، بحسب بركات الذي قال إن “السيول اجتاحت الموقع، وجرفت الفسيفساء، ثم جرى كشفها في العصر

الحديث، وتم نقلها إلى المتحف الوطني في قصر بيت الدين حيث تستقر حالياً”.

وتعتبر الاكتشافات جزءاً بسيطاً مما هو موجود افتراضاً في طبقات الأرض من آثار تعود إلى حقبات تاريخية مختلفة فينيقية، ويونانية، ورومانية،

وعربية، فكلما جاءت حضارة هدمت وبنت حضارة جديدة على أنقاض ما سبقتها.

وانطلاقاً من التسمية “الآثارات”، يمكن لزائر الموقع ملاحظة انقسامها إلى قسمين، الأول فسحة كبيرة منخفضة يتصدرها جدار عريض من حجارة مصقولة مواجهة للبحر، هي الواجهة الداخلية لكنيسة بيزنطية تتوسّطها فتحة أشبه بالمحراب. أما القسم الثاني فمرتفع وفيه خرائب متواصلة تشير إلى

قسم من مدينة بطرقاتها وأبنيتها ومنشآتها.

ويفيد بركات أن “المنقبين تمكنوا من اكتشاف كنيسة تقع على شاطىء البحر مباشرة، وتبعد عن الماء حوالى 60 متراً تقريباً. وهناك قسم من أعمدتها، وتيجانها ظاهر للعيان على مقربة من الشاطىء”.

ويتحدث كتاب “المعالم الأثرية والتاريخية في إقليم الخروب”، للأستاذ الجامعي المتخصص بعلم الآثار في الجامعة اللبنانية أحمد عبد الحليم يونس عن الكنيسة، ذاكراً أنها “من النوع الذي ينقسم ثلاثة أقسام من الشمال إلى الجنوب وهي: أولاً، الرواق الشمالي عرضه 6,3 أمتار، والأوسط 9,66 أمتار، والجنوبي 4,4 أمتار، أما طول الكنيسة من الداخل من دون الحنية فيبلغ 41,5 م، موزّع أيضاً على ثلاثة أقسام: المصلى الأول 20 متراً، تقريباً من المدخل إلى الوسط، والثاني، مصلى في وسط الكنيسة طوله 15,5 متراً، والثالث، الهيكل ستة أمتار تقريباً”.

أما الحنية، بحسب يونس،  فتبلغ 2,9 متراً عرضاً، بارتفاع 5 أمتار تقريباً وكانت مكسوة بالفسيفساء الزجاجية، وبالتصوير الجدراني (الفريسك)، وقد دمرت هذه الرسوم والتشكيلات الفنية مع جانب كبير من لوحات الفسيفساء، التي يرجع بعضها إلى عهود الرومان والبيزنطيين. كما استخرجت خلال عمليات التنقيب 10 لوحات قيّمة عليها كتابات باليونانية ساعدت على تحديد تواريخ الكنائس، والفيلات في المحلة، واللوحات تعرض في المتحف الوطني، يضاف إليها العديد من اللوحات الصغيرة.

شكلت المدينة نقطة تلاقٍ وتواصل على الطريق الساحلي شرقي المتوسط، خصوصاً بين عكا جنوباً، وأنطاكية شمالاً في القرنين الرابع والسادس للميلاد، وازدهرت الأعمال فيها، وتعبر عن ثرائها المباني التي شيدت من غرف متعدّدة رصفت أرضها بالفسيفساء، وهو الطابع الذي انتشر في مختلف المدن والبلدات البيزنطية. كما شقت فيها شوارع منتظمة جهزت بأقنية صرف المياه إلى البحر، وانتشرت فيها آثار لمعاصر زيتون بكثرة ما زالت حجارتها متناثرة في الموقع.

عرفت الجية قديماً بمدينة “بورفيرون”، والكلمة متصلة بصدف الموريكس الذي استخرج الفينقيون الصباغ الأرجواني منه. ومرّ في الجية العديد من الرحالة خلال القرن الـ 19، منهم “ويسلسون” الذي زارها عام 1882م. ولورتييه الذي شاهد مجموعة كبيرة من تيجان الأعمدة والنواويس تغطي أرض القرية، بحسب يونس الذي يضيف في كتابه أن رينان زار موقع الجية خلال بعثته إلى فينيقيا عام 1863، ويقول: “عندما مررت بالجية، نقبوا في إحدى التلال ليخرجوا منها حجارة للبناء، وعندها رأينا غرفاً ظهرت فيها رسوم جميلة لحيوانات، وطواويس متواجهة، ونعامات تحت أقواس مطلية ومزينة، وهي آثار بيزنطية”.

ويذكر الكتاب أن “أعمال التنقيب أسفرت عن نتائج غير متوقعة، والفسيفساء التي تغطي الأرض متعددة الألوان محاطة بسجق مبروم، مرصوفة بمكعبات صغيرة تشكل أزهاراً حمراء على أرضية بيضاء، في الوسط بشكل دائرة يحيط بها سجق مشابه للأول، وفي داخل الدائرة كأس، وتحته من كل جهة شكل حجلة. وفي القسم الأعلى طاووس، وفي الأسفل صور حيوانات منها كلب، وذئب، وثعلب. ولاحظ رينان وجود صخرتين داخل البناء، وفيهما مدفأتان محفورتان بعمق مترين لكل واحدة”.

ويضيف الكتاب أن “جورج كونتينو كتب في مجلة سوريا لعام 1920 مقالة عن مهمة أثرية في صيدون 1914، تحت عنوان “فسيفساء الجية” ما ترجمته: “على بعد ساعة بالعربة من صيدا باتجاه بيروت، تتوقف الطريق الساحلي عند خليج صغير تمتد شواطئه الرملية أمام جبال خفيفة الانحدار، وتقع في طرفه الشمالي قرية الجية المتواضعة، وكان هذا الخليج على امتداد القرون الأولى للميلاد، مركزاً لمؤسّسات مزدهرة، ما زالت بقاياها ظاهرة حتى أيامنا هذه حيث قامت مدينة “بورفيرون”.

أنشر الحب

Leave a Reply